كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإيجاب الوضوء عند إرادة الصلاة لا ينافي أنه يجب أيضا إذا ضاق الوقت، فإنّ وقت الصلاة إذا ضاق وجب الوضوء والصلاة وجوبا مضيقا، بمعنى أنّه يأثم بترك كلّ منهما، وإنما ربط الأمر بالوضوء بحالة إرادة الصلاة للإشارة إلى أن الشأن في المؤمنين إقامتها وعدم الإهمال في أدائها.
وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إليها وإن لم يكن محدثا، والإجماع على خلافه، ولهذا قالوا: إن الخطاب للمحدثين للإجماع على أنّ الوجوب لم يكن إلا عليهم، ولأنّ في الآية ما يدل عليه، فإنّ التيمم بدل عن الوضوء، وقائم مقامه، وقد قيّد وجوب التيمم في الآية بوجود الحدث، وهو يدل على أنّ الأصل مقيّد بوجوب الحدث ليتأتّى أن يكون البدل قائما مقام الأصل، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال، وهو مقيّد بالحدث الأكبر في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فيكون نظيره، وهو الأمر بالوضوء مقيّدا بالحدث الأصغر.
ويستأنس لاعتبار هذا القيد بما جاء في قراءة شاذة «إذا قمتم إلى الصّلاة وأنتم محدثون» وأما ما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه كانوا يتوضؤون لكل صلاة فلم يكن ذلك بطريق الوجوب، يدل عليه ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات».
مع ما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام يوم الفتح صلّى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه:
يا رسول اللّه صنعت شيئا لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: «عمدا صنعته يا عمر».
يعني يريد بيان الجواز فيكون الوضوء على طهر مندوبا فقط لا واجبا.
والوجه مأخوذ من المواجهة، وهي تقع بما كان من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، فيجب غسل كل ما في هذه الدائرة فإن كان له لحية خفيفة وجب غسل الشعر والبشرة التي تحته، وإن كانت غزيرة وجب غسل ظاهرها فقط، ولكن لا يجب إيصال الماء إلى داخل العين لما في التزامه من الحرج، وقد قال تعالى في آخر الآية: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. وأما الفم والأنف فأخذ حكمهما من دليل آخر.
و(إلى) في قوله: إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ تدل على أن ما بعدها غاية لما قبلها فقط، وأما دخول الغاية في الحكم أو خروجها عنه فلا دلالة لها عليه، وإنما هو أمر يدور مع الدليل الخارجي، ففي مثل قولنا حفظت القرآن من أوله إلى آخره، وقوله تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ما بعد (إلى) داخل في حكم ما قبلها، لأنّ الغرض في المثال الأول للدلالة على حفظ كل القرآن، وللعلم العادي في المثال الثاني بأنه عليه الصلاة والسلام لا يسرى به وهو زعيم ديني من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- وهو من أعظم بيوت العبادة- من غير أن يدخله ويتعبد فيه.
وفي مثل قوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقوله: {أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ما بعد (إلى) غير داخل في حكم ما قبلها، لأنّ الإعسار في المثال الأول علة في الإنظار، وبالميسرة تزول العلة، فيطالب بالدين، ولا يثبت الإنظار معها، ولأنه في المثال الثاني لو دخل الليل في حكم الصيام للزم الوصال، وهو غير مشروع في حقنا، وقوله: إِلَى الْمَرافِقِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فقال الجمهور: بوجوب غسل المرفقين والكعبين احتياطا في العبادات، خصوصا إذا لوحظ أن الأيدي والأرجل تتناول في الاستعمال المرفقين والكعبين وما وراءهما، فيكون ذكرهما لإسقاط ما وراءهما لا غير، فيجب غسل المرفقين والكعبين لذلك، وهو مذهب الحنفية والشافعية. وقال زفر من الحنفية: لا يجب غسلهما لأنّ (إلى) لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه.
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اتفق الفقهاء على أنّ مسح الرأس من فرائض الوضوء، ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح، فقال المالكية: يجب مسح الكل أخذا بالاحتياط.
وقال الشافعية: يكفي مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين.
وقال الحنفية: يفترض مسح ربع الرأس أخذا ببيان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كما روي عن المغيرة بن شعبة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان في سفر، فنزل لحاجته، ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته.
ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء في قوله: بِرُؤُسِكُمْ زائدة أو أصلية فقال المالكية والحنابلة، إن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول، واعتبارها هنا زائدة أولى، لأنّ التركيب حينئذ يدل على وجوب مسح كل الرأس، والبعض داخل فيه، فيكون ماسح الكل آتيا بالفرص بيقين، فيجب مسح الكل احتياطا.
وقال الحنفية والشافعية: إنّ هذه الأدوات التي منها الباء موضوعة للدلالة على معان، فمتى أمكن استعمالها دالة على هذه المعاني وجب استعمالها على هذا النحو.
والباء موضوعة للتبعيض، ويمكن استعمالها هنا فيه، فإننا نجد فرقا في المعنى بين وجودها في مثل هذا التركيب وعدم وجودها، لأنّك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان المفهوم مسح اليد ببعض الحائط لا بجميعه، وإذا قلت مسحت الحائط بيدي كان المفهوم مسح جميع الحائط، ومتى ظهر الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها وجب أن يحمل قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} على بعض الرأس وفاء بحق الحرف.
إلا أن الحنفية استندوا في تقدير البعض بثلاث أصابع على رأي، وبربع الرأس على رأي آخر إلى ما رواه المغيرة بن شعبة كما تقدم.
وأما الشافعية فقالوا: إن أقل ما ينطبق عليه اسم المسح داخل بيقين، وما عداه لا يقين فيه، فلا يكون فرضا.
وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب معطوف على وجوهكم، فيجب غسل الأرجل إلى الكعبين، يؤيّد ذلك عمل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته، فكان الحكم مجمعا عليه.
وأما قراءة الجر فمحمولة على الجوار، كما في قوله في سورة هود {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] بجر الميم لمجاورة يوم المجرور، وفائدة الجر للجوار هنا في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة الإسراف، لما يعلق بها من الأدران.
والكعبان تثنية الكعب، وهو العظم الناتئ بين الساق والقدم، ولكل رجل كعبان يجب غسلهما.
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا أصل الفعل تطهّروا، أدغمت التاء في الطاء فسكنت، فأتى بالهمزة، أي فاغسلوا بالماء أبدانكم جميعها، فإنّ الأمر بالتطهير لما لم يتعلق بعضو دون عضو كان أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن، يدل على ذلك أنّ الوضوء لما تعلّق بعضو دون عضو نص اللّه تعالى في الأمر به على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها، وإنما حملت الطهارة بالماء لأنّ الماء هو الأصل فيها، كما يشير قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11].
والجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب. وقد بيّن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لحصول الجنابة سببين:
الأول: نزول المني، فإنه عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الشأن «الماء من الماء».
أي يجب استعمال الماء للغسل من أجل الماء، أي المني.
والثاني: التقاء الختانين، فإنه عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا التقى الختانان وجب الغسل».
وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع حيض ونفاس، لقوله تعالى في الحيض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري. وللإجماع على أن النفاس كالحيض.
واختلف الفقهاء في المضمضة والاستنشاق في الغسل، فقال المالكية والشافعية:
لا يجبان فيه، وقال الحنفية والحنابلة: يجبان.
حجة المالكية والشافعية: ما ورد من أنّ قوما كانوا يتحدثون في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في أمر الغسل وكلّ يبين ما يعمل، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فإذا أنا قد طهرت».
وحجة الحنفية والحنابلة أنّ الأمر بالتطهير يعمّ جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة، ولكنّ الباطنة التي لا يمكن غسلها سقطت للحرج، فبقيت الطهارة متعلقة بالظاهرة والباطنة التي يمكن غسلها، وهي الفم والأنف، فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات في الغسل، وأيضا رأينا أنه تعلقت بهما أحكام تدلّ على اعتبارهما من الأعضاء الظاهرة، وأحكام تدلّ على اعتبارهما من الأعضاء الباطنة، فمن الأول ما قالوه من أنه إذا تمضمض الصائم أو استنشق لا يفسد صومه، وهو دليل اعتبارهما من الظاهرة، ومن الثاني ما قالوه من أنّه إذا خرج القيء من الجوف إلى الفم ثم عاد، لا يفسد صومه وهو دليل اعتبارهما من الباطنة، وحيث اجتمع فيه شبه الأعضاء الظاهرة والباطنة كان الاحتياط في باب الطهارات في وجوب غسلهما.
وأجيب عما تمسك به المالكية والشافعية بأن الغرض من الحديث بيان أنّه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة فبيّن عليه الصلاة والسلام أنّ الواجب الغسل فقط، وأنّ الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.
بعد أن بيّن اللّه تعالى وجوب استعمال الماء في الوضوء والغسل عند إرادة الصلاة بيّن هنا أنّ وجوب استعمال الماء مقيّد بأمرين:
الأول: وجود الماء. والثاني: القدرة على استعماله من غير ضرر.
أما إذا انعدم الماء أو وجد ولكنّ مريد الصلاة مريض يضره الماء، فالوجوب ينتقل من استعمال الماء إلى التيمم في حالتي الحدث الأصغر والأكبر.
فالتيمم رخصة مبنية على أعذار العباد، وهو حكم سقط به حكم آخر هو وجوب استعمال الماء لعذر، وهو عدم القدرة على استعمال الماء، فهو رخصة إسقاط في المحل، لاقتصاره على الوجه واليدين، وفي الآلة لقيامة مقام الماء عند عدم القدرة على استعمال الماء.
وظاهر النص جواز التيمم للمريض مطلقا، ولكنّه مقيّد بمن يضره الماء، كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أنّ المراد بالمريض المجدور، ومن يضره الماء كما تقدم في سورة النساء، ولذلك رأى الفقهاء أنّ المرض أنواع:
الأول: ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو بغلبة الظن، أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق.
والثاني: ما يؤدي استعمال الماء معه إلى زيادة العلة، أو بطء المرض، وفي هذه الحالة يجوز التيمم عند الحنفية والمالكية، وهو أصح قولي الشافعي لما روي عن جابر بن عبد اللّه أنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه فشجّه، ثم احتلم، فخاف من زيادة العلة إن استعمل الماء، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على استعمال الماء. فاغتسل، ثم ازدادت علته ومات، فلما قدمنا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علم بما حصل فقال عليه الصلاة والسلام: «قتلوه، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم».
الثالث: ما لا يخاف معه تلفا ولا بطأ، ولا زيادة في العلة من استعمال الماء، وفي هذه الحالة لا يجوز التيمم عند الحنفية والشافعية، لأنّه لم يخرج عن كونه قادرا على استعمال الماء، فلا يرخّص له في التيمم وعند المالكية يجوز التيمم لإطلاق النص.
الرابع: أن يكون المرض حاصلا لبعض الأعضاء، فإن كان الأكثر صحيحا وجب غسل الصحيح ومسح الجريح، ولا يجوز التيمم، وإن كان الأكثر جريحا يجوز التيمم، وهذا مذهب الحنفية. وعند الشافعية: يغسل الصحيح، ثم يتيمم مطلقا. وعند المالكية: جاز له التيمم مطلقا.